وسط دعوات لتعزيز التسامح.. ظلال العنصرية تلطخ العلم الأولمبي في باريس
وسط دعوات لتعزيز التسامح.. ظلال العنصرية تلطخ العلم الأولمبي في باريس
هجمات عنصرية على الرياضيين والمشاركين تثير الجدل في أولمبياد باريس
التمييز الديني في الألعاب الأولمبية انتهاكات حقوقية واضحة
حقوقية كويتية: التمييز العنصري في الأولمبياد انتهاك صارخ لحقوق الإنسان
محلل رياضي: لا لتسييس الرياضة والأولمبياد يجب أن يعزز التسامح
في قلب الحدث الرياضي الأبرز عالميًا، حيث تتنافس الشعوب وتتكاتف الأيدي، تسللت ظلال العنصرية لتلطّخ بياض العلم الأولمبي.
في أولمبياد باريس 2024، لم تكن المنافسات الرياضية وحدها التي احتلّت الأضواء، بل برزت قضايا اجتماعية عميقة، أبرزها قضية العنصرية التي حوّلت الألعاب الأولمبية من احتفال عالمي بالرياضة والإنسانية إلى ساحة لصراع الهويات وتصاعد الكراهية.
كانت الأنظار متجهة إلى باريس، عاصمة الأنوار، حيث كان من المتوقع أن تشهد الألعاب الأولمبية احتفالًا عالميًا بالتنوع والوحدة إلا أن الواقع كان مختلفًا تمامًا، فقد شهدنا تصاعدًا ملحوظًا في المظاهر العنصرية، سواء كانت تصريحات علنية أو سلوكيات فردية، ما أثار تساؤلات حول مدى التزام المجتمع الدولي بالقيم الأولمبية التي تدعو إلى المساواة والاحترام المتبادل.
تُظهر الإحصائيات ارتفاعًا ملحوظًا في حالات التمييز العنصري والإساءة اللفظية والجسدية التي تعرض لها الرياضيون والمشجعون من مختلف الأعراق والأجناس خلال فترة الألعاب، فقد سجلت المنظمات الحقوقية الدولية عددًا كبيرًا من الشكاوى، ما يشير إلى أن المشكلة أعمق بكثير مما يظهر على السطح، هذه الأرقام تكشف القبح المستتر خلف الشعارات البراقة للوحدة والتآخي.
من أبرز الأمثلة الصارخة التي عكست هذه الأزمة كانت حملة الكراهية ضد المغنية الفرنسية من أصول إفريقية وتحديدا دولة مالي، آية ناكامورا، مشاركتها في حفل افتتاح الألعاب أثارت جدلًا واسعًا، حيث تعرضت لحملة عنصرية شرسة من قبل بعض الجماعات اليمينية المتطرفة، التي اعتبرت اختيارها إهانة للهوية الفرنسية.
آية ناكامورا
كما أن قرار اللجنة المنظمة للألعاب بمنع اللاعبات المسلمات من ارتداء الحجاب أثار جدلًا واسعًا حول التمييز الديني، واعتبره الكثيرون انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان.
وبحسب منظّمة العفو الدولية فقد خلق حظر ارتداء الحجاب في عدة رياضات في فرنسا حالة لا يمكن تبريرها، إذ تنتهك الدولة المستضيفة للألعاب الأولمبية عدداً من الالتزامات التي تنصّ عليها المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، والتي هي دولة طرف فيها، فضلاً عن الالتزامات والقيَم المنصوص عليها في الأُطر القانونية لحقوق الإنسان الخاصة باللجنة الأولمبية الدولية.
التمييز والعنصرية واللا مساواة أمور عمت أولمبياد هذا العام، إذ تم منع الرياضيّين الروس من المشاركة بسبب الحرب على أوكرانيا، فيما تم السماح لإسرائيليين بالمشاركة على الرغم من جرائم الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين في غزة.
وأضافت الهتافات العنصرية في الملاعب ضد لاعبين من أصول إفريقية أو عربية مزيدًا من الزيت على النار، مما ألقى بظلال من الشك على الجماهير الفرنسية.
ولا يقتصر تأثير العنصرية في الألعاب الأولمبية على الضحايا مباشرة، بل يتجاوز ذلك ليؤثر على المجتمع ككل.
فالرسائل العنصرية التي يتم تداولها خلال هذه الأحداث تسهم في ترسيخ الأفكار المسبقة والتحيزات، وتزيد من الانقسامات الاجتماعية وتقوض جهود بناء مجتمعات متسامحة.
ويرى محللون أن تصاعد هذه المواقف العنصرية يعكس تراجعاً مقلقاً في قيم التسامح والاحترام المتبادل، في الوقت الذي يتزايد فيه خطاب الكراهية ويكتسب فيه اليمين المتطرف زخماً في العديد من الدول، يبدو أن الرياضة لم تسلم من تأثيرات هذه التحولات الاجتماعية والسياسية.
كما أن استغلال الأحداث الرياضية الكبرى، مثل الألعاب الأولمبية، لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة يزيد حدة هذا التوجه ويعقد الجهود الرامية إلى الحفاظ على الروح الرياضية النقية، ومن الضروري أن تكون هناك خطوات حازمة من قبل اللجنة الأولمبية الدولية والدول المشاركة لمكافحة هذه الظاهرة، ووضع سياسات صارمة لمكافحة التمييز بجميع أشكاله، وتطبيق عقوبات جدية على الأفراد والجهات التي ترتكب مثل هذه الانتهاكات.
تاريخ من العنصرية
منذ انطلاق الألعاب الأولمبية الحديثة في أثينا عام 1896، كانت العنصرية موجودة بأشكال متعددة، وظلت تتكرر عبر العقود بأوجه مختلفة، من المهم أن نفهم أن العنصرية في الأولمبياد ليست مجرد ظاهرة حديثة، بل هي جزء من تاريخ طويل ومعقد للرياضة العالمية.
في أولمبياد باريس 1900، الذي كان جزءًا من المعرض العالمي آنذاك، ظهرت العنصرية بوضوح في الاختيار والتعامل مع الرياضيين.
لم يكن هناك تمثيل كبير للرياضيين من خارج أوروبا وأمريكا الشمالية، وكان يُنظر إلى اللاعبين من الجنسيات الأخرى بازدراء وتهميش، والذي كان يعكس المواقف الاستعمارية السائدة في تلك الفترة، حيث كانت القوى الأوروبية تسيطر على أجزاء كبيرة من العالم وتعتبر الثقافات الأخرى أقل شأنًا.
مع مرور الوقت، تحسن الوضع بعض الشيء، لكن العنصرية لم تختفِ تمامًا، ففي أولمبياد برلين 1936، شهد العالم أحد أشهر الأمثلة على العنصرية في الألعاب الأولمبية.
وحاول أدولف هتلر استخدام الألعاب كوسيلة لترويج الأيديولوجية النازية وتفوق العرق الآري.
لكن الأسطورة الرياضية الأمريكية جيسي أوينز، وهو أمريكي من أصول إفريقية، تحدى هذه الأيديولوجية بفوزه بأربع ميداليات ذهبية، ورغم انتصاراته، تعرض أوينز للتمييز العنصري عند عودته إلى الولايات المتحدة، حيث لم يكن مرحبًا به في العديد من المؤسسات بسبب لونه.
وفي الألعاب الأولمبية في ملبورن 1956، شهد العالم انطلاقة حركة رفض العنصرية عندما قاطعت العديد من الدول الإفريقية البطولة احتجاجًا على سياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
هذه المقاطعة كانت بداية لوعي عالمي أكبر بحقوق الإنسان والمساواة العرقية في الرياضة.. في عام 1968، في الألعاب الأولمبية في مكسيكو سيتي، كان هناك احتجاج بارز آخر ضد العنصرية؛ قام العداءان الأمريكيان تومي سميث وجون كارلوس برفع قبضتيهما المكسوتين بالقفازات السوداء على منصة التتويج أثناء عزف النشيد الوطني الأمريكي، في إشارة إلى حركة "القوة السوداء".
هذا الاحتجاج أثار جدلاً واسعًا وأدى إلى طردهما من الفريق الأمريكي، لكنه أيضًا سلط الضوء على التمييز العنصري الذي كان يعاني منه الأمريكيون من أصول إفريقية في وطنهم. في العقود التالية، استمرت الألعاب الأولمبية في مواجهة تحديات العنصرية.
وفي أولمبياد لوس أنجلوس 1984، تعرض العداء الجنوب إفريقي زولا بود للإيقاف والانتقاد بسبب مشاركته في الألعاب تحت العلم البريطاني، حيث كانت جنوب إفريقيا معزولة دوليًا بسبب سياسات الفصل العنصري.
هذا الحادث أظهر كيف يمكن أن تؤدي السياسات العنصرية إلى تعقيد المشاركة في الأحداث الرياضية الدولية.
في السنوات الأخيرة، لم تخلُ الألعاب الأولمبية من حوادث العنصرية. في أولمبياد بكين 2008، تعرض بعض الرياضيين والمشجعين لأعمال عنصرية، وأظهرت وسائل الإعلام الدولية قلقًا متزايدًا حول معاملة الأقليات.
وفي أولمبياد ريو دي جانيرو 2016، تعرض العديد من الرياضيين من أصل إفريقي وأمريكي جنوبي لهتافات مسيئة وتمييزية، ما أظهر أن العنصرية لا تزال مشكلة مستمرة في الرياضة العالمية.
في أولمبياد طوكيو 2020، التي تأجلت إلى عام 2021 بسبب جائحة كوفيد-19، شهدت الألعاب حالات عنصرية متعددة، أبرزها كان تجاه اللاعب الفرنسي ذو الأصول الإفريقية يانيس أنتيتوكونمبو، الذي تعرض لهتافات عنصرية خلال مباراة كرة السلة.
هذه الحوادث تبرز التحدي المستمر في مكافحة العنصرية داخل الألعاب الأولمبية.
تمييز وعنصرية ولا مساواة
وقالت الحقوقية الكويتية البارزة، مها برجس، شهد أولمبياد باريس الحالي انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، متجسدة في التمييز والعنصرية وعدم المساواة، هذه الانتهاكات لا تتعارض فقط مع القيم الأولمبية الأساسية، بل تمثل انتهاكاً للعديد من مبادئ حقوق الإنسان، أحد أبرز الأمثلة على هذه الانتهاكات كان منع اللاعبات المسلمات من ارتداء الحجاب، هذا القرار يعد انتهاكاً صارخاً لحرية الدين والمعتقد، وهي حقوق مكفولة في المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على أن "لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين".
وتابعت برجس، في تصريحاتها لـ"جسور بوست": منع ارتداء الحجاب لا يعتدي فقط على حرية المعتقد، بل يفرض قيوداً تعسفية على حرية التعبير الشخصي، حملة الهجوم العنصرية التي تعرضت لها المغنية الفرنسية حفل افتتاح الألعاب تُعد انتهاكاً للكرامة الإنسانية، هذا النوع من التمييز يتعارض مع المادة 1 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تؤكد أن "جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق".
وأكدت برجس، أن التمييز العنصري يعمق الانقسامات الاجتماعية ويقوض الجهود المبذولة لتعزيز التفاهم والتسامح بين الثقافات المختلفة، كما أن الهتافات العنصرية ضد اللاعبين من أصول إفريقية أو عربية في الملاعب تعكس تجاهلاً تاماً لمبدأ المساواة وعدم التمييز المنصوص عليه في المادة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فهذه الممارسات تخلق بيئة معادية وتؤثر سلباً على الأداء النفسي للرياضيين، فضلاً عن أنها تعزز مناخاً من الكراهية والعنف بين الجماهير.
وعن تأثير هذه الانتهاكات قالت مها برجس: لا يقتصر على الضحايا المباشرين فقط، بل يمتد ليشمل المجتمع بأسره، الرسائل العنصرية والتمييزية تسهم في ترسيخ الأفكار المسبقة والتحيزات، مما يعمق الانقسامات الاجتماعية ويقوض جهود بناء مجتمعات متسامحة، إن مثل هذه البيئة تؤدي إلى تهميش الأقليات وتعزيز الشعور بالاغتراب بينهم، مما يعوق التكامل الاجتماعي والتقدم.
مها برجس
وأتمت: لمواجهة هذه الانتهاكات، يتعين على اللجنة الأولمبية الدولية والدول المشاركة اتخاذ إجراءات حازمة وفعّالة، يجب وضع سياسات صارمة لمكافحة التمييز والعنصرية، وتطبيق عقوبات جدية على الأفراد والجهات التي ترتكب مثل هذه الانتهاكات، بالإضافة إلى ذلك، يجب تعزيز برامج التوعية والتعليم حول حقوق الإنسان وقيم التسامح في جميع المستويات، من المدارس إلى الفعاليات الرياضية الكبرى.
لا لتسييس الرياضة
وقال المحلل الرياضي، علاء خُليف، إن ما حدث لا يأتي في مصلحة اللاعبين، حيث يعزز مشاعر الإقصاء والعزلة لدى المجموعات المستهدفة، ما يؤدي إلى تراجع الثقة بين الأفراد والجماعات المختلفة داخل المجتمع، كذلك تراجع قيم التسامح والاحترام المتبادل يسهم أيضًا في زيادة حدة الصراعات والانقسامات، بالإضافة إلى ذلك، يتم استغلال الأحداث الرياضية الكبرى، مثل الألعاب الأولمبية، لتحقيق مكاسب سياسية، ما يؤدي إلى تسييس الرياضة وتسخيرها لأهداف ضيقة.
وتابع خُليف، في تصريحاته لـ"جسور بوست"، إن مواجهة ظاهرة العنصرية في الألعاب الأولمبية تتطلب جهودًا مشتركة من قبل الجميع، بدءًا من الرياضيين والمشجعين وصولاً إلى المنظمات الرياضية والدول والحكومات، ويجب على الجميع العمل معًا لبناء مجتمعات رياضية أكثر عدلًا وتسامحًا، حيث يتم الاحتفال بالتنوع والاختلاف بدلاً من الخوف منه، ولا بد من تبني سياسات وتشريعات تضمن حماية حقوق جميع الرياضيين والمشجعين بغض النظر عن خلفياتهم العرقية أو الدينية، وأولمبياد باريس 2024 بمثابة ناقوس خطر، يحذرنا من عودة شبح العنصرية إلى الساحة الدولية.
وأكد المحلل الرياضي ضرورة التعلم من هذه التجربة المؤلمة، وأن نعمل جميعًا على بناء مستقبل أكثر إشراقًا، حيث تتساوى جميع الشعوب والأجناس، وتحتفل الإنسانية بانتصاراتها المشتركة، موجها خطابه للمهتمين والمسؤولين “دعونا نجعل من الرياضة جسراً للتواصل والتفاهم، وليس ساحة للصراع والكراهية، دعونا نعمل معًا لبناء عالم أكثر عدلًا وسلامًا، حيث تتألق قيم الإنسانية في كل مباراة وكل منافسة، إننا بحاجة إلى استحضار الروح الرياضية الحقيقية، التي تجعل من المنافسة فرصة لتجسيد أسمى معاني التعاون والتسامح علينا أن نتذكر أن الرياضة ليست فقط أداءً بدنيًا، بل هي أيضًا رسالة سامية تجمع بين الشعوب والثقافات”.
وأكد علاء خُليف ضرورة اتخاذ المؤسسات الرياضية الدولية موقفًا حازمًا ضد كل أشكال التمييز، وأن تعمل على تعزيز بيئة شاملة تتيح للجميع الفرصة للتعبير عن أنفسهم بحرية واحترام، عندما نقف في وجه العنصرية، نحن لا نحمي فقط حقوق الأفراد، بل نؤسس لمجتمعات أكثر تماسكًا وتكافلًا.
علاء خُليف
وأتم: يجب أن نتحد جميعًا، رياضيين ومشجعين ومنظمين، لنجعل من الرياضة رمزًا للوحدة والتفاهم، لا أداة للتمييز والكراهية، يجب أن نحتفل بتنوعنا ونعمل على بناء جسور التواصل، لأن في تنوعنا تكمن قوتنا وجمالنا، فلنجعل من كل مباراة وكل منافسة فرصة لإظهار أفضل ما في الإنسانية، ولنبني معًا عالمًا أكثر عدلًا وسلامًا.